بقلم: مسيجا بيكيل ومودفان ديريجت
تقرير من إعداد ونشر شبكة الصحافة الأخلاقية
ترجمه للعربية: هيئة ميثاق شرف للإعلاميين السوريين
ما هي القرارات التي يتم اتخاذها قبل أن تشق صور اللاجئين وضحايا الحروب طريقها إلى جرائدنا, أو كمقاطع فيديو وخلفياتٍ إلى شاشات كمبيوتراتنا وهواتفنا وتلفزيوناتنا؟ أينبغي على الصحفيين أن يكونوا أكثر تحفّظاً عند نشر هكذا صور وإعطاء شروحاتٍ عنها؟
من الأمثلة التي ترد للذهن هنا صورة الطفل أيلان كردي, الذي وجدت جثته على شواطئ بودروم في تركيا. أثارت هذه الصورة وصور أخرى شبيهة استُخدمت لطرح قضية اللاجئين والهجرة الكثير من النقاشات في غرف تحرير الأخبار في كل مكان. ولكن ما هي المعضلات التي يواجهها عادةً محررو الصور والصحفيون الآخرون وما هي الدروس التي تعلمناها في هذا السياق؟
أول الأسئلة هنا وأكثرها إشكالاً هو فيما إذا كان يجوز نشر الصور أم لا في المقام الأول؟ ففي غضون اثني عشرة ساعة وصلت صورة الطفل أيلان التي التقطت في 2 أيلول (سبتمبر) 2015 إلى 20 مليون شاشة عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وفي اليوم التالي ظهرت على الصفحات الأولى عبر العالم. وهكذا امتلكت أزمة اللاجئين, التي تم التعبير عنها حتى تلك اللحظة عبر الأرقام والإحصائيات, وجهاً بشرياً مرتبطاً بها. طفق السياسيون يشيرون للصورة في البرلمانات الوطنية. وراح أنصار سياسات اللجوء المنفتحة في الغرب ومعارضوها على حد السواء يستخدمونها كرمزٍ معبّر عن قضيتهم. ومع ذلك, أصبح موضوع نشر الصورة أمراً مثار جدل, وتساءل القراء في الحال فيما إذا كان من اللائق نشر صور ضحايا وافتهم المنية بهذا العمر المبكّر.
شَعرت وسائل الإعلام التي نشرت الصورة بالحاجة لتبرير قرارها. ظهرت تعليقات لا تحصى على الموضوع. أجرى الصحفيون مقابلات مع زملائهم للحديث عن مخاوفهم. ومع أن الصورة حصلت على مشاركات هائلة في وسائل التواصل, إلا أن نشرها في وسائل الإعلام التقليدية حرّك المشاعر. هل كان من الجائز نشر صور لهكذا طفل صغير مات لتوّه؟ ألم يكن ذلك تعبيراً عن ذائقةٍ سيئة من وجهة نظر عائلة الطفل والقرّاء عندما رأوا الصورة في الجرائد التي افترشوها للقراءة وقت الفطور في الصباح؟ اللاجؤون يموتون في البحر كل يوم, فلماذا نشر هذه الصورة بالتحديد؟
هذا ما قالته بعض هيئات التحرير بخصوص النقاط التي أخذوها بعين الاعتبار في هذه القضية:
الترويع الجميل
بعد يومٍ واحدٍ من الانتشار السريع للصورة, ارتأى سيرجي ريكو, المدير الفني لمجلة (لوبس) الفرنسية ألا ينشرها في المجلة. وللمفاجأة فقد نشرتها المجلة على موقعها الالكتروني. “لم يكن ذاك قراري,” قال ريكو لصحيفة (إن آر سي هاندلزبلاد) الهولندية, مضيفاً, “ما أفكر فيه هو كرامة الطفل. وفوق ذلك, لن تغيّر هذه الصورة مجرى التاريخ في حالٍ من الأحوال.” لكن الكثير من المحررين استخدموا نفس هذه الحجة من أجل تبرير نشر الصورة.
لقد كانت لوجهة نظر مجلة (لوبس) ما يبررها. فقبل أقلّ من أسبوع, كانت صناديق بريد محرري الصور عبر العالم قد امتلأت بصور لسبعة أطفالٍ صغار غرقوا على الساحل الليبي. معظم الجرائد لم تنشر تلك الصور. وقام موقع فيسبوك بإخضاع ألبوم صور أنشأه الفنان السوري خالد بركة للرقابة. فلم كانت الاستجابة لصورة أيلان بعد ثلاثة أيام على نقيضٍ من الاستجابة للحالة المذكورة؟
تتعلق الإجابة على هذا السؤال بعلم الجمال. فصور الأطفال الليبيين مروّعة. ملابسهم منزوعةٌ عنهم. أجسادهم تبدو كجثث هامدة. ليس هناك أدنى شك لدى رؤية هيئة أولئك الضحايا عن الحال التي هم عليها. من الواضح إذاً أننا كي نعرض أحداثاً مروّعة فنحن بحاجةٍ إلى مُسحةٍ من الجمال. أفي الأمر سخرية؟
وفقاً لآيدان وايت, مدير شبكة الصحافة الأخلاقية, إنه من الواضح وضوح الشمس: “أننا بحاجةٍ إلى الجمال في الصور كما نحتاج إلى اللغة الجيدة في استخدام الكلمات.”
أما محرر الصور في جريدة (تراو) الهولندية فقد عبر عن الفكرة على الشكل التالي: “بالماضي رأينا فقط صوراً لأجسادٍ متحللة. وهذه ببساطة لا نعرضها. لكن صورة أيلان كانت الأولى التي جعلتك تتساءل: هل هو نائم أم ميت؟ لذلك فقد فكرنا أنه من المعقول أن ننشر هذه الصورة.”
كان ذاك قراراً جريئاً, فتلك الجريدة تعارض عادةً وبشدّة عرض مواضيع الموت على صفحتها الرئيسية. ومن الواضح أنه كانت هناك بالفعل ظروفاً استثنائية جعلتها تنشر صورة أيلان.
وسائل التواصل واستعجال النشر
لعبت وسائل التواصل الاجتماعي دوراً مهماً. فحضورها القوي في الإنترنت ترك أثره على عملية صنع القرار في هيئات التحرير التقليدية. وصار مشروعاً أن نسأل فيما إذا كان الصحفيون نشروا الصور لأنهم هم أنفسهم أرادوا ذلك, أم شعروا بالضغط لكي ينشروها. بالنسبة لجريدة (لوموند) الفرنسية فقد وصلت صور أيلان متأخرة وفات موعد نشرها في عدد ذلك اليوم. وقد نشرت صوره في اليوم التالي. ذكر نيكولا جيمينز, رئيس تحرير قسم الصور أنه: “خلال المساء تطورت الصور لتصبح الخبر الرئيسي. تلقيتها … طوال اليوم عبر وسائل التواصل الاجتماعي, وأيضاً من أصدقاء وأفراد من عائلتي إلى درجةٍ لم يعد بالإمكان تجاهلها أكثر.”
وكانت وسائل التواصل الاجتماعي عاملاً حاسماً أيضاً في مجلة (تراو). فقد رصد محررو الصور فيها صور أيلان في مرحلةٍ مبكرة ولكنهم وضعوها جانباً. وعندما نبّههم زملاءهم أنهم يتداولون الصور بلا توقف عبر تويتر, بدأ محررو الصور بالاقتناع أنهم ما عادوا قادرين على تجاهلها. وبعد مناقشة الأمر مع رئيس التحرير, تم وضع صورة أيلان على الصفحة الرئيسية مع وضع معلوماتٍ عنه وعن رحلته والإشارة إلى أن الصورة بحد ذاتها انتشرت بسرعةٍ كالنار بالهشيم. بالنسبة لرئيس التحرير, كانت تلك المعلومات التي وُضعت كشرحٍ عن الصورة هي شرطه الأساسي لنشر الصورة. فقد ساهمت تلك المعلومات بإمداد القارئ بالسياق الذي لا غنى عنه في هكذا حالة.
أما بالنسبة لجريدة (هيت ألجيمين داغبلاد) الهولندية فإن نقص السياق والمعلومات الكافية لشرح الصور كان هو السبب لعدم نشرها في اليوم الذي ظهرت فيه عبر الإنترنت. ووفقاً لرئيس التحرير كريستيان روسينك: ” النشر في الجريدة الورقية يختلف عن النشر في الموقع الالكتروني. فالجريدة يقرؤها المرء بتأمّل أكثر وهي تحتاج إلى سياقٍ أوسع.” ولكن عندما انتشرت صور أيلان على نطاقٍ واسع, شعر روسينك أن عليه أن يعتذر لقرائه, وشعرت الجريدة بالحاجة لطباعة الصور على نسختها الورقية في نهاية المطاف.
وهكذا فحاصل الأمر أنه بالنسبة لبعض هيئات التحرير فإن حقيقة كون الصور قد حظيت بمشاركات كثيرة عبر الإنترنت هي التي شرّعت لها نشرها في نهاية المطاف. وصار الخبر ليس الصور ذاتها فحسب, وإنما حقيقة تخلّق هذا الدافع الجمعي لنشرها. فبعض المحررين انحرفوا عن مبادئهم الأخلاقية الخاصة.
موازنة المصالح المتضاربة
عندما تنال صورةً ما انتشاراً واسعاً فهذا لا يعني أن الصحفيين سيكونون في حلٍّ من ضرورة اتخاذ خيارات أخلاقية. لكن إلى أي درجة تتغلب مقتضيات العمل الصحفي على مصالح معينة من قبيل خصوصية الموضوع أو ضرورة احترام أفراد عائلة صاحب الصورة؟
كتب آمول راجان, رئيس تحرير صحيفة (ذا إندبندنت) اللندنية كاشفاً أن جوانب مختلفة تمّت مناقشتها باستفاضة في مكتب التحرير. لكن في النهاية, تغلّبت المصالح الصحفية: “حصل ذلك من أجل صدم العالم كي يتحرك, ولتحسين سياسة اللجوء, وللضغط على رئيس وزراء كان سلوكه في هذه الأزمة مخجلاً.”
يمكن اعتبار صدم الجمهور إحدى مهام الصحافة, لكن هناك حدود, كما يمكن أن نفهم من إحدى القواعد التي تتبناها (بريسيرات), وهي منظمة نمساوية مستقلة أسستها بعض وسائل الإعلام المطبوعة لتتولى التحقيق في بعض المسائل الصحفية. في 27 آب (أوغست) 2015, وقبل خمسة أيام فقط من العثور على الطفل أيلان, تم العثور على 71 شخصاً ميتين في شاحنةٍ. كان الحادث مادةً خبريةً رئيسية, ولكن كانت هناك مشكلةً واحدة: لم تكن هناك صوراً لتحكي القصة بشكلٍ جيد, بل بضعة صور لرجال شرطة, و”كان على الكلمات أن تتولى مهمة الكلام,” كما عبّرت عن الأمر فيونا شيلدز, محررة الصور في صحيفة (غارديان). استمر الأمر على هذا النحو حتى نشرت جريدة (داي نيو كرونين زيتغ), وهي أكبر جريدة نمساوية, صورةً مسرّبة للجثث الميتة. اعتبرت منظمة (بريسيرات) الصورة منافيةً للمواثيق الأخلاقية للصحافة. فقد تم عرض الجثث بوضعياتٍ لا توحي بأن الجريدة احترمت الكرامة الإنسانية للمنكوبين.
النشر تترتب عليه مسؤوليات. جريدة (دي فولكسكرانت) الهولندية تعلمت هذا الدرس بعد تجربةٍ قاسية عندما نشرت مقالاً عن الإرهاب. فعلى صفحتها الأولى وضعت الجريدة صورةً لرجلٍ بملامح شرق أوسطية في سيارته وقد أوقفته الشرطة العسكرية في مطار شيفول. وكانت العبارة المرفقة بالصورة تحمل العنوان, “هل ما تزال مدينة شيفول آمنة؟” وحصل أن الرجل الذي ظهر بالصورة رآها على صفحة الجريدة وادعى أنه تعرض للظلم عن طريق الربط بينه وبين الإرهاب الإسلامي دونما وجه حق. وهكذا اشتكى لهيئة التحرير ورفع دعوى قضائية على الجريدة.
وحسب رئيس تحرير (دي فولكسكرانت) فيلبس ريمارك, فالصورة لم تكن أكثر من تعبيرٍ عن الإجراءات الأمنية الأكثر تشدداً التي راحت تطبّق على الأشخاص ذوي الملامح الإسلامية. ودفع ريمارك بحجته بالقول أن الرجل الذي ظهر في الصورة كان يمثّل المسافرين على نحوٍ اعتباطي, وليس مشتبه به. ولكن رغم هذه الحجة, فقد ارتأى القاضي أن الدمج بين اصورة والعنوان المرفق يعتبر انتهاكاً للخصوصية. فقد أعطت الصورة على هذا النحو الانطباع أن الرجل الذي ظهر فيها له علاقة بطريقةٍ ما بتهديد أمن مدينة شيفول. وهكذا حكم القاضي بدفع تعويضات مالية للرجل.
تبين هذه الحادثة ضرورة أن يفكر الصحفيون بمضامين ما ينشروه. وفي حالة الصور, فالحادثة أيضاً تعلمنا أهمية التفكير بعواقب نشر الصور على الأشخاص الذين يظهروا فيها.
أهمية السياق
حسب فون والاس, وهو محرر صور سابق في شبكة الجزيرة, من المهم أن ننظر إلى ما وراء الصورة عندما يكون الموضوع هو اللاجؤون. “قصتهم لا تنتهي في المكان الذي تم فيه التقاط الصورة. لذلك فمن المهم بالنسبة إلي البحث عن صورٍ تجاوز الصورة الملتقطة, تساعد في تعزيز كرامة الأشخاص موضوع الصورة.” من جهةٍ ثانية, يبرز السؤال أيضاً فيما إذا كان بالإمكان التجهز لأخذ النتائج التي يمكن أن تترتب على النشر بعين الاعتبار.
فالطفل أيلان, على سبيل المثال, صار رمزاً يستخدمه السياسيون, والفنانون والنشطاء على حدّ السواء. واستخدمت صورته لدعم خليطٍ من الآراء والتوجهات. “الكل يندفع من أجل الحصول على الصور التي تصبح بمثابة أيقونة. وفي النهاية ربما تفقد تلك الصور معانيها الحقيقية. الأمر يشابه حالة أولئك الأشخاص الذين يعتادون ارتداء قمصان عليها صور تشي غيفارا من دون أن يفهموا حقيقة تشي غيفارا,” يقول بيتر بوكارت, مدير قسم الطوارئ في منظمة (هيومان رايتس ووتش) وواحدٌ من أوائل الأشخاص الذين شاركوا صورة أيلان على حساباتهم في وسائل التواصل الاجتماعي.
وقعت عائلة أيلان ضحية السعي المحموم من أجل الحصول على صورةٍ أيقونية, كما وصف بوكارت. فالأب, عبدالله كردي, اكتشف بنفسه كم صار ابنه رمزاً قوياً. وأصبح الرجل مطيّة سياسيةً حيث تمت دعوته لزيارة رئيس الوزراء التركي إردوغان, بالإضافة إلى زيارة أكراد العراق والثوار السوريين الذين يحاربون داعش. ورأى عبدالله صورة ابنه الميت مرسومة على يافطاتٍ وملصقات. هل تنبّأ الصحفيون حقاً بكل ذلك؟
هل كان عليهم أن يكونوا أكثر درايةً بالنتائج التي كانت ستترتب على استخدام صورة أيلان؟ هل كان من الأفضل منذ البداية لو أنه تم تقديم معلومات خلفية أكثر استفاضة حول رحلة أيلان وعائلته؟
تطرح صورة الطفل عمران دنقيش ذو الخمس سنين وهو يغطيه الغبار في حالةٍ من الصدمة في سيارة الإسعاف بعد حصول قصفٍ في حلب أسئلة مشابهة. كما صورة أيلان, لقيت هذه الصورة انتشاراً واسعاً حيث قررت الكثير من الجرائد بعد ذلك نشرها. وتماماً مثل حالة أيلان, تم إلحاق معانٍ ومواقف مختلفة بالصورة. ذهب التلفزيون الحكومي الصيني حدّ الاشتباه بأن الصورة مزورة. وتحدثت الحكومة الروسية عن استخدام الصورة من أجل الدعاية. وانتشرت شائعة بأن محمود رسلان, الذي التقط الصورة, هو شخصٌ كان يدعم الانتحاريين.
ما يستحق الاعتبار هنا أن الصورة لم تنشر من قِبل وكالة صحفية مستقلّة, مثل صورة أيلان, وإنما من قبل مركز حلب الإعلامي, وهو مجموعةُ من النشطاء الذين يعملون على تغطية الأعمال الوحشية للحكومة السورية. وعلى الرغم من حقيقة أنه من المستحيل تقريباً بالنسبة للصحفيين الغربيين أن يتمكنوا من تغطية الأخبار من الأرض في حلب مباشرةً, وأن استخدام هكذا مواد هو الطريقة الوحيدة لعرض ما يجري هناك, إلا أن كون الصورة ملتقطة بعدسة نشطاء يضعف من مصداقيتها. فالشك في مصداقية المصوّر يجعل الصور نفسها في دائرة الشك.
مرةً ثانية نقول إن السياق هو من يقرر كيف نقيّم صورةً ما. والسياق في العصر الرقمي يحتاج للتحقق منه مرةً تلو الأخرى. لا ينتهي عمل الصحفي بمجرد التقاط الصورة ونشرها. فتقديم السياق لا يقلّ أهمية. على أعضاء هيئات التحرير أن يسألوا أنفسهم فيما إذا كانت هناك معلوماتٌ كافية أم لا لكي يتمكنوا من تفسير ما يروه في الصورة.
إلى أي مدى على الصحفيين الموازنة بين مصالحهم كصحفيين وبين مصالح أخرى من قبيل الخصوصية وكرامة الأشخاص الذين يظهرون في الصورة وكرامة عائلاتهم؟
هل هناك من مبرر لنشر صورة حساسة لمجرد كونها جذابة من الناحية الجمالية؟
في حالاتٍ كالتي وردت أعلاه, من الأهمية بمكان أن يلتزم الصحفيون بالحقائق ويقدموا معلوماتٍ عن خلفية الخبر.
وعلاوةً على ذلك, على الصحفيين أن يسألوا أنفسهم لماذا ينشرون صوراً معينة دون غيرها. مهما انتشرت الصورة بسرعة, فهذا لا يعفينا من المسؤولية عن خياراتنا الأخلاقية.